تشكل ثنائية المرجعية الصحافية في لبنان حالاً لافتة في فرادتها. ويكاد ينعدم وجود نقابتين: واحدة للصحافة وأخرى للمحررين في أي من الدول إلا في ما ندر. فهناك على ما هو شائع اصحاب صحف وصحافيون يعملون فيها، والمنطق السليم يحتّم ان يكون لكل قطاع نقابته. وفي البلدان المتقدمة ينضوي مالكو الصحف تحت لواء "نقابة الناشرين"، فيما ينتظم المحررون والكتّاب والمراسلون في سلك نقابة الصحافيين.
وجود نقابتين للصحافة والمحررين في لبنان ظاهرة قد تبدو طبيعية إذا كان لكل نقابة استقلاليتها وكيانها الخاص المميّز. على ان الاستقلالية والتميز لا يؤشران بالضرورة الى علاقة تصادمية بين النقابتين على اساس التصنيف التقليدي لحركة العمل والحياة بين عمال وأرباب عمل، ولكن هناك حاجة ملحة الى الوصف الوظائفي، فلا تختلط المصالح وتندمج على نحو تضيع معه الحقوق، أو تخف قدرة الممانعة عند طرف الانتاج الأكثر عرضة للضرر، وهم المحررون.
لعل قانون المطبوعات الحالي الذي تكب لجنتنا الإدارة والعدل والإعلام والاتصالات على تعديله هو الذي أوجد اشكالية عطلت فاعلية المرجعيتين النقابيتين للصحافة اللبنانية، فغدا حضورهما يفتقر الى القدرة على التأثير، خصوصاً في السنوات الاخيرة في ظل الصعوبات المالية والاقتصادية، والمنافسة الحادة التي شكّلها الإعلام المرئي والمسموع، وأخيراً ليس آخراً، الصحافة الالكترونية التي تسطو على محتويات الصحف وتفيد منها من خلال تسويقها على نطاق واسع من دون أن تتكبد أي عناء أو نفقات، وكأن هذه الصحف وجدت لخدمة المواقع الوليدة التي تجني الكثير ولا تدفع سوى القليل. وعجز نقابة الصحافة في الدفاع عن مصالحها وتحقيق لائحتها المطلبية للحد من خسائر الصحف والمجلات تسبب بوقف العديد منها، أو ارغامها على اتخاذ اجراءات تقشّف كان الصحافيون أولى ضحاياها. وهذا الواقع جعل معظم اصحاب الصحف يعرضون عن المشاركة في مجلس نقابة الصحافة مباشرة موكلين الامر الى ممثلين عنهم مجردين من أي صلاحيات، ولا رغبة للفاعلين من بينهم بالقبول بمنصب نقيب. هذا، ما سيحمل هؤلاء في الأشهر القليلة المقبلة على تمديد جديد لمجلس النقابة الحالي مع تعديلات طفيفة لتصحيح جانب من التمثيل، تداركاً للفراغ، وهم على يقين بأن النقابة ستظل قاصرة عن جبه التحديات
الوافدة.
السبب الرئيس لحال الشلل القائمة داخل النقابتين ليس عائداً لانعدام تداول السلطة منذ عقود فحسب، بل لخلل في قانون المطبوعات والنظام الداخلي. وحسناً فعلت نقابة المحررين عندما حددت في النظام الذي أعدته وامتنع وزير الإعلام السابق طارق متري عن توقيعه لاسباب غير مقنعة، ولاية نقيب المحررين بثلاث سنوات غير قابلة للتجديد. وكيف يمكن لنقابة المحررين ان تكون قادرة على التحرك والانتاج في ظل وجود هيئات ومجالس مشتركة برئاسة نقيب الصحافة؟ ومتى كان وجود "الخصم" و"الحكم" في هيئة واحدة أو مجلس واحد كفيلاً بايصال كل صاحب حق الى حقه؟ ومن غير الجائز أن تكون لجنة الجدول مشتركة، وكذلك المجلس التأديبي، لأن هناك تعارض مصالح حقيقياً وخلطاً غير مألوف بين الحقوق والواجبات. من هنا، بات ضرورياً أن تكون لنقابة المحررين القدرة على الدفاع عن وحدتها ومصالحها، والتحرر من القيود التي تعوق حركتها، وقد حال وجود الهيئات والمجالس المشتركة بين النقابتين دون اتخاذ النقابة اجراءات وتدابير ضد من هدّد وحدتها وتعرض لكرامات اعضائها والمسؤولين فيها الاحياء منهم والاموات. ان العلاقة المميزة التي شدّت النقيب ملحم كرم – رحمة الله عليه – الى النقيب محمد البعلبكي – أمد الله في عمره وحصّنه بوافر الصحة – لم تحجب يوماً ولن تحجب تعارض المصالح بين النقابتين، ولا حاجتهما الى تكريس استقلاليتهما. واليوم أصبحت احكام الضرورة ضاغطة ولم يعد ثمة مجال إلا مأسسة التعاطي بين هذين الكيانين العريقين ليصون كل طرف حقوقه ويؤدي واجباته على أفضل وجه.
ان نقابة الصحافة هي وحدة نقابية مستقلة يتعين عليها الدفاع عن اصحاب الصحف والمجلات وان تضغط على المراجع المعنية للحصول على اعفاءات وحوافز وامتيازات توفر لها ديمومة الصدور. ونقابة المحررين هي ايضاً كيان نقابي مستقل من واجبه الدفاع عن المحررين وضمان ديمومة العمل لهم وتحصين ما حصلوا عليه من مكاسب وحمايات. ومن حقها ان يكون لها جدولها المستقل ومجلسها التأديبي الخاص. ولا مانع في أن يستمر اتحاد الصحافة اللبنانية شرط ان يعالج العناوين العريضة المتصلة بالمهنة مثل الدفاع عن حرية الصحافة والصحافيين ومواكبة التشريعات ذات الصلة، وتوحيد المواقف حيال القضايا المصيرية الداهمة للوطن والمتربصة به.
ان نقابة المحررين التي تتحرك وسط احوال صعبة وتحديات شتى وحروب جائرة، قامت بورشة اصلاحية تناولت النظام الداخلي، وتنمية الموارد، وتوفير المقر المستقل، واطلاق الموقع الالكتروني، وهي مستمرة في عملها من دون كلل. وفي جديد النقابة المذكّرة التي تقدمت بها الى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، ووزير الإعلام وليد الداعوق لاستعادة ما سلب من المحررين من حقوق ولتطوير وتوسيع قاعدة المكاسب. ومن المؤسف القول انه كان للصحافيين منذ الستينيات حتى مطالع التسعينيات حصانات وحوافز ومكاسب أكثر بكثير من اليوم. لن أنكأ الجراح وأحدّد الجهة المسؤولة عن انتزاع حقوق المحررين، ولا الاحوال المحيطة بهذا الموضوع لأن شرحها يطول، وخلفياتها تدين من وراءها، لكن المهم هو ان تواصل نقابة المحررين سيرها في اتجاه ترسيخ استقلالها التام عن نقابة الصحافة، من خلال تعليق مشاركتها في المجالس والهيئات المشتركة الى حين انجاز القانون الجديد للمطبوعات الذي ينبغي ان يسقط من مواده هذه المجالس والهيئات ويحرّر النقابة كلياً من القيود التي تكبّلها. ولن أقترح على نقابة الصحافة ما ينبغي أن تفعله، فأهل مكة أدرى بشعابها. على ان أمر بقائها نقابة مستقلة تماماً ومتعاونة مع نقابة المحررين في حدود القضايا العامة بعيداً من أي وصاية، أو أن تتحوّل الى نقابة الناشرين بعد تطوير أنظمتها وتفعيلها وتحصينها، يعود اليها بالدرجة الاولى.
انها مقاربة ناتجة من تجربة عمرها أربعة عقود من الزمن قضيت معظمها ناشطاً في الهرم النقابي لمهنة الصحافة، أوردها بكل موضوعية وبمنأى عن أي غرض، اللهم سوى مساعدة ابناء المهنة على النهوض من العثار وجبه التحديات المتعاظمة الماثلة أمام الصحافة الورقية المعرضة للاندثار طاوية معها صفحات مضيئة من ذاكرة الوطن التي لم تبخل بالشهداء الذين فجرت دماؤهم ينابيع العطاء والابداع، ومنها إنبثق و"انتفاضة"... والى من ينقذها... وهل يمكن بلوغ هذا الهدف إذا لم تكن "الورشة" داخل البيت ومنه الى كل ما يتصل بهذه المهنة ويمت اليها برابطة فكرية وتشريعية
وتقنية؟
ولماذا لا يكون الواقع النقابي الهرم هو المنطق؟
جوزف القصيفي